مهمة الإسلام دائماً أن يدفع بالحياة إلى التجدد والتطور والرقي ، وأن يدفع بالطاقات البشرية إلى الإنشاء والانطلاق والارتفاع .
ومن ثم فالأدب أو الفن المنبثق من التصور الإسلامي للحياة ، قد لا يحفل كثيراً بتصوير الضعف البشري ولا يتوسع في عرضها ، وبطبيعة الحال لا يحاول أن يبرزها ، فضلاً على أن يزينها بحجة أن هذا الضعف واقع ، فلا ضرورة لإنكاره أو إخفائه .
إن الإسلام لا ينكر أن في البشرية ضعفاً . ولكنه يدرك كذلك أن في البشرية قوة ويدرك أن مهمته هي تغليب القوة على الضعف ، ومحاولة رفع البشرية وتطويرها وترقيتها . لا تبرير ضعفها أو تزيينه .
والأدب أو الفن المنبثق عن التصور الإسلامي للحياة قد يلم أحياناً بلحظات الضعف البشري ، ولكنه لا يلبث عندها إلا ريثما يحاول رفع البشرية من وهدة هذه اللحظات ، وإطلاقها من عقال الضرورة وضغطها .
وهو لا يصنع هذا متأثراً بالمعنى الضيق لمفهوم " الأخلاق " ، إنما يصنعه متأثراً بطبيعة التصور الإسلامي للحياة ، وبطبيعة الإسلام ذاته في تطوير الحياة وترقيتها ، وعدم الاكتفاء بواقعها في لحظة أو فترة .
والنظرية الإسلامية لا تؤمن بسلبية الإنسان في هذه الأرض ، ولا بضآلة الدور الذي يؤديه في تطوير الحياة ، ومن ثم فالأدب أو الفن المنبثق من التصور الإسلامي لا يهتف للكائن البشري بضعفه ونقصه وهبوطه ، ولا يملأ فراغ مشاعره وحياته بأطياف اللذائذ الحسية ، أو بالتشهي الذي لا يخلق إلا القلق والحيرة والحسد والسلبية . إنها يهتف لهذا الكائن بأشواق الاستعلاء والطلاقة ، ويملأ فراغ حياته ومشاعره بالأهداف البشرية التي تطور الحياة وترقيها ، سواء في ضمير الفرد أو في واقع الجماعة .
وليست الخطب الوعظية هي سبيل الأدب أو الفن المنبثق من التصور الإسلامي ، فهذه وسيلة بدائية وليست عملا فنياً بطبيعة الحال .
كذلك ليست وظيفة هذا الأدب أو الفن هي تزوير الشخصية الإنسانية أو الواقع الحيوي ، وإبراز الحياة البشرية في صورة مثالية لا وجود لها .
إنما هو الصدق في تصوير المقدرات الكامنة أو الظاهرة في الإنسان . والصدق كذلك في تصوير أهداف الحياة اللائقة بعالم من البشر ، لا بقطيع من الذئاب ! الأدب أو الفن المنبثق من التصور الإسلامي أدب أو فن موجه . بحكم أن الإسلام حركة تطوير مستمرة للحياة ، فهو لا يرضى بالواقع في لحظة أو جيل ، ولا يبرره أو يزينه لمجرد أنه واقع . فمهمته الرئيسية هي تغيير هذا الواقع وتحسينه . والإيحاء الدائم بالحركة الخالقة المنشئة لصورة متجددة من الحياة .
وقد يلتقي في هذا مع الأدب أو الفن الموجه بالتفسير المادي للتاريخ . يلتقي معه لحظة واحدة . ثم يفترقان .
فالصراع الطبقي هو محور الحركة التطويرية في ذلك الفن ، أما الإسلام فلا يعطي الصراع الطبقي كل هذه الأهمية . لأن نظرته إلى الأهداف البشرية أوسع وأرقى ، إنه لا يرضى بالظلم الاجتماعي ولا يقره ولا يهتف للناس بالرضى به أو التذاذه ، وهو يعمل – فيما يعمل – لمكافحته وتبديله . ولكنه لا يقيم حركته التطويرية على الحقد الطبقي بل على الرغبة في تكريم الإنسان ورفعه عن درك الخضوع للحاجة والضرورة ، وإطلاق إنسانيته المبدعة من الانحصار في الطعام والشراب وجوعات الجسد على كل حال .
فالمحور الذي تدور عليه حركة التطوير في الفكرة الإسلامية هو تطوير البشرية كلها ودفعها إلى الانطلاق والارتفاع ، وإلى الخلق والإبداع . وفي الطريق يلم بآلام الطبقات وقيودها ليحطم هذه القيود ، ويزيل تلك الآلام .
إنه لا يحقر آلام البشر . ولكنه لا يستخدم الحقد الطبقي لإزالتها . لاعتباره أن الحقد ذاته قيد يحول دون انطلاق البشرية إلى آفاق أعلى !
أما كيف يعالج هذه الآلام علاجاً واقعياً عملياً ، لا وعظياً ولا خيالياً ، فمجاله ليس في صفحة الأدب .
المهم أن نقرر هنا أن الأدب أو الفن الإسلامي أدب أو فن موجه . موجه بطبيعة التصور الإسلامي للحياة وارتباطات الكائن البشري فيها . وموجه بطبيعة الفكرة الإسلامية ذاتها وهي طبيعة حركية دافعة للإنشاء والإبداع ، وللترقي والارتفاع .
وأخيراً فإن الإسلام لا يحارب الفنون ذاتها ، ولكنه يعارض بعض التصورات والقيم التي تعبر عنها هذه الفنون ، ويقيم مكانها – في عالم النفس – تصورات وقيماً أخرى ، قادرة على الإيحاء بتصورات جمالية إبداعية ، وعلى إبداع صور فنية أكثر جمالاً وطلاقة . تنبثق انبثاقاً ذاتياً من طبيعة التصور الإسلامي ، وتتكيف بخصائصه المميزة .
وللأدب والفن الإسلامي إذن منهج . منهج محدد ، يلتزمه في كل مجالاته .
وهذه الكلمة هي الخط الأول في تصوير هذا المنهج . وبها نفتح المجال لدراسته تقريراً وشرحاً ، ومعارضة ونقداً لجميع الأقلام ، ولجميع الاتجاهات .